كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واختلفوا في تعيينه: فقال أكثر المفسرين: هو آصف بن برخيا كاتب سليمان، وقيل اسمه أسطوم وكان صديقًا عالمًا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى، وقيل ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وعن ابن لهيعة بلغني أنه الخضر عليه السلام {أنا آتيك به} ثم بين فضله على العفريت بقوله: {قبل أن يرتدّ} أي: يرجع {إليك طرفك} أي: بصرك إذا طرفت أجفانك فأرسلته إلى منتهاه، ثم رددته فالطرف: تحريكك أجفانك إذا نظرت فوضع في موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفًا بإرسال الطرف في نحو قوله:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدًا ** لقلبك يومًا أتعبتك المناظر

وصف برد الطرف ووصف الطرف بالارتداد، روي أن آصف قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ سليمان عينيه فنظر نحو اليمين ودعا آصف فبعث الله تعالى الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يجدّون جدًا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان، وقال الكلبي: خرّ آصف ساجدًا ودعا باسم الله الأعظم فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع تحت كرسي سليمان بقدرة الله تعالى، وقيل: كانت المسافة شهرين، وقال سعيد بن جبير: يعني من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك، وقال قتادة: قبل أن يأتيك الشخص من مدّ البصر، وقال مجاهد: يعني: إدامة النظر حتى يرد البصر خاسئًا، قال الزمخشري: ويجوز أن يكون هذا مثلًا لاستقصار مدّة المجيء به، كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وفي ردّ طرف والتفت ترني وما أشبه ذلك تريد السرعة. انتهى.
واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف: فقال مجاهد ومقاتل: بياذا الجلال والإكرام، وقال الكلبي: يا حيّ يا قيوم، وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وروي عن الزهريّ قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب يا إلهنا وإله كل شيء إلهًا واحدًا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها، وعن الحسن يا الله يا رحمن، وقال محمد بن المنكدر إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله تعالى علمًا وفهمًا أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك قال سليمان هات قال أنت النبيّ ابن النبيّ وليس أحد أوجه عند الله منك فإن دعوت الله كان عندك فقال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت.
قال الرازي وهذا القول أقرب واستدل لذلك بوجوه منها: أنّ سليمان كان أعرف بالكتاب من غيره لأنه هو النبي فكان صرف اللفظ إليه أولى، ومنها: أنّ إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق، ومنها: أنه قال هذا من فضل ربي فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.
{فلما رآه} أي: رأى سليمان العرش {مستقرًّا عنده} أي: حاصلًا بين يديه {قال} شاكرًا لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق {هذا} أي: الإتيان المحقق {من فضل ربي} أي: المحسن إليّ لا بعمل أستحق به شيئًا فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم ونظر إليّ بتوفيقي للعمل فكل عمل نعمة يستوجب عليّ بها الشكر، ولذلك قال: {ليبلوني} أي: ليختبرني {أأشكر} فاعترف بكونه فضلًا {أم أكفر} بظني أني أوتيته باستحقاق.
تنبيه:
ههنا همزتان مفتوحتان فنافع يسهل الهمزة الثانية، وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وأدخل بينهما ألفًا قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل ورش وابن كثير، ولورش أيضًا إبدالها ألفا، والباقون بالتحقيق وعدم الإدخال، ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله: {ومن شكر} أي: أوقع الشكر لربه {فإنما يشكر لنفسه} فإن نفعه لها وهو أن يستوجب تمام النعمة ودوامها لأنّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وجلب للنعمة المفقودة {ومن كفر} أي: بالنعمة {فإنّ ربي} أي: المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر {غني} عن شكره لا يضرّه تركه شيئًا {كريم} أي: بإدرار الإنعام عليه فلا يقطعه عنه بسبب عدم شكره، ولما حصل العرش عنده.
{قال} عليه السلام {نكروا} أي: غيروا {لها عرشها} أي: سريرها إلى حالة تنكره إذا رأته، قال قتادة ومقاتل: هو أن يزاد فيه وينقص، وروي أنه جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر اختبارًا لعقلها، كما اختبرتنا بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك.
وإليه أشار بقوله: {ننظر أتهتدي} أي: إلى معرفته فيكون ذلك سببًا لهدايتها في الدين {أم تكون من الذين} شأنهم أنهم {لا يهتدون} بل هم في غاية الغباوة ولا يتجدّد لهم اهتداء، وقال وهب ومحمد بن كعب: إنما حمل سليمان على ذلك، أنّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي له أسرار الجنّ لأنّ أمها كانت جنية وإذا ولدت له ولدًا لا ينفكون عن تسخير سليمان وذرّيته من بعده، فأساؤوا الثناء عليها ليزهدوه فيها، فقالوا: إنّ في عقلها شيئًا وإنّ رجليها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين، فأراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح، ثم أشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله.
{فلما جاءت} وكانت قد وضعت عرشها في بيت خلف سبعة أبواب ووكلت به حراسًا أشدّاء {قيل} لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره {أهكذا عرشك} أي: مثل هذا عرشك {قالت كأنه هو} قال مقاتل: عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، وقال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل نعم خوفًا من أن تكذب ولم تقل لا خوفًا من التكذيب فقالت كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر، وقيل: اشتبه عليها أمر العرش لأنها خلفته في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فقيل لها فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب.
وقوله تعالى: {وأوتينا العلم من قبلها} فيه وجهان: أحدهما: أنه من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة الدال عليها السياق، والمعنى: وأوتينا العلم بنبوّة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة، وذلك لما رأت قبل ذلك من أمر الهدهد ورد الهدية والرسل من قبلها من قبل الآية في العرش {وكنا مسلمين} أي: منقادين طائعين لأمر سليمان، والثاني: أنه من كلام سليمان وأتباعه فالضمير في قبلها عائد على بلقيس فكان سليمان وقومه قالوا: إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة وقد رزقت الإسلام، ثم عطفوا على ذلك قولهم {وأوتينا العلم} يعني بالله تعالى وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة في مثل علمها وغرضهم من ذلك شكرًا لله تعالى في أن خصهم بمزيد التقديم في الإسلام قاله مجاهد، وقيل: معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله تعالى، واختلف في فاعل قوله عز وجل.
{وصدّها ما كانت تعبد من دون الله} على ثلاثة أوجه: أحدها: ضمير البارئ تعالى، الثاني ضمير سليمان عليه السلام، أي: منعها ما كانت تعبد من دون الله وهو الشمس، وعلى هذا فما كانت تعبد منصوب على إسقاط الخافض، أي: وصدّها الله تعالى أو سليمان عما كانت تعبد من دون الله قاله الزمخشريّ مجوزًا له، قال أبو حيان وفيه نظر من حيث إنّ حذف الجار ضرورة كقوله:
تمرّون الديار فلم تعوجوا

وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع، والثالث: أنّ الفاعل هو ما كانت أي: صدّها ما كانت تعبد عن الإسلام أي: صدّها عبادة الشمس عن التوحيد وقوله تعالى: {إنها كانت من قوم كافرين} استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت بينهم ولم تعرف العبادة ولم تعرف إلا عبادة الشمس، ولما تم ذلك فكأنه قيل: هل كان بعد ذلك اختبار فقيل نعم.
{قيل لها} أي: قائل من جنود سليمان عليه السلام فلم يمكنها المخالفة {ادخلي الصرح} وهو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء جار فيه سمك اصطنعه سليمان، ولما قالت له الشياطين إنّ رجليها كحافر الحمار وهي شعراء الساقين، فأراد أن ينظر إلى ساقيها من غير أن يسألها كشفهما، وقيل الصرح صحن الدار أجرى تحته الماء وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكف عليه الطير والجنّ والأنس، وقيل: اتخذ صحنًا من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء {فلما رأته حسبته لجة} وهي معظم الماء {وكشفت عن ساقيها} لتخوضه فنظر إليها سليمان فرآها أحسن الناس ساقًا وقدمًا إلا أنها كانت شعراء الساقين فلما رأى سليمان ذلك صرف نظره عنها، وناداها بأن.
{قال} لها {إنه} أي: هذا الذي ظننته ماء {صرح ممرد} أي: مملس ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر {من} أي: كائن من {قوارير} أي: زجاج وليس بماء، ثم إنّ سليمان دعاها إلى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت بأن {قالت رب} أي: أيها المحسن إليّ {إني ظلمت نفسي} أي: بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك {وأسلمت مع سليمان لله} أي: مقرّة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية، ثم رجعت إشارة للعجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت {رب العالمين} فعممت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى، وقيل: إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها إنّ سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا، فقولها ظلمت نفسي أي: بذلك الظنّ.
واختلفوا في أمرها بعد إسلامها هل تزّوجها سليمان عليه السلام؟ فالذي عليه أكثر المفسرين فيما رأيت أنه تزوّج بها وكره ما رأى من شعر ساقيها فسأل الإنس ما يذهب هذا فقالوا الموس فقالت المرأة لا تمسني حديدة قط، فسأل الجنّ فقالوا لا ندري، فسأل الشياطين فقالوا إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ، فلما تزوّجها سليمان أحبها حبًا شديدًا وأقرّها على ملكها وأمر الجنّ فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها وارتفاعًا وحسنًا، قال الطيبي سلحين ومؤمنة باليمن وغمدان قال في النهاية هم بضم الغين وسكون الميم البناء العظيم، وكان يزورها في الشهر مرّة ويقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له وقيل: إنها لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلًا من قومك أن أزوجك له قالت ومثلي يا نبيّ الله ينكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان، قال نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرّمي ما أحل الله، فقالت إن كان ولابد فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوّجه بها ثم ردّها إلى اليمن وسلطن زوجها ذا تبع على اليمن وأمر زوبعة أمير جنّ اليمن أن يطيعه فبنى له المصانع ولم يزل أميرًا حتى مات سليمان عليه السلام، فلما أن حال الحول وتبينت الجنّ موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجنّ إنّ الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرّقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان، وقيل: إنّ الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاثة عشر سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة فسبحان من يدوم ملكه وبقاؤه.
ولما أتم سبحانه وتعالى قصة سليمان وداود عليهما السلام ذكر قصة صالح عليه السلام وهي القصة الثالثة بقوله تعالى: {ولقد أرسلنا} أي: بمالنا من العظمة {إلى ثمود أخاهم} أي: من القبيلة {صالحًا} ثم ذكر المقصود من الرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن بقوله: {أن اعبدوا الله} أي: الملك الأعظم وحده ولا تشركوا به شيئًا، ثم تعجب منهم بما أشارت إليه الفاء وإذا المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع بقوله: {فإذا هم} أي: ثمود {فريقان} وبين بقوله تعالى: {يختصمون} أنهم فرقة افتراق بكفر وإيمان لا فرقة اجتماع في هدى وعرفان، ففريق صدق صالحًا واتبعه وفريق استمرّ على شركه وكذبه وكل فريق يقول أنا على الحق وخصمي على الباطل، ثم استعطف صالح عليه السلام على المكذبين بأن.
{قال} لهم {يا قوم لم تستعجلون} أي: تطلبون العجلة بالإتيان {بالسيئة} أي: التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر {قبل} الحالة {الحسنة} من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم، والاستعجال: طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت المضروب، واستعجالهم لذلك بالإصرار على سببه وقولهم استهزاءً {ائتنا بما تعدنا} وكانوا يقولون إنّ العقوبة التي بعدها صالح إن وقعت على زعمه تبنا حينئذ واستغفرنا، فحينئذ يقبل الله تعالى توبتنا ويدفع العذاب عنا، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب عقولهم واعتقادهم فقال.
{لولا} أي: هلا ولم لا {تستغفرون الله} أي: تطلبون غفرانه قبل نزول العذاب، فإنّ استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ {لعلكم ترحمون} تنبيهًا لهم على الخطأ فيما قالوه فإنّ العذاب إذا نزل بهم لا تقبل توبتهم.